أزمة 1929.. عندما انهار اقتصاد العالم !


    مطلع القرن العشرين، كانت البشرية على موعد مع الحرب العالمية الأولى، كنتيجة لمجموعة من العوامل المباشرة و غير المباشرة، مخلفة بذلك أحداثا مأساوية لم يشهد لها العالم مثيلا، لكن و قبل الغوص في التفاصيل لابد من الإشارة إلى المرحلتين الأساسيتين التي مرت منها الحرب العالمية الأولى، فالمرحلة الأولى عرفت انتصار الألمان و اعتماد الدول المتحاربة حرب الخنادق بعد فشل حرب الهجوم و الحركة، إضافة إلى تسخير كل الإمكانيات البشرية، الاقتصادية و التكنولوجية، كذلك قيام الثورة العربية الكبرى ضد الوجود العثماني. أما المرحلة الثانية فقد اتسمت بانتصار دول الحلفاء، انسحاب روسيا من الحرب بعد قيام الثورة البلشفية فيها سنة 1917، بالمقابل دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب إلى جانب دول الحلفاء.


 كما سبق و أشرنا، إن الحرب العالمية الأولى خلفت نتائج جسيمة على عدة مستويات مختلفة، فعلى المستوى البشري، ارتفع عدد القتلى و الجرحى و المفقودين، حيت وصلت نسبة القتلى من مجموع سكان فرنسا 10,5 بالمائة و ألمانيا حوالي 9,8 بالمائة مما أسفر عن الأزمة الاجتماعية بما فيها نقص اليد العاملة، خروج المرأة للعمل، البطالة، الفقر، المجاعة و ارتفاع نسبة الإعالة. أما على المستوى الاقتصادي، فقد برز في الواجهة ما يسمى التضخم الاقتصادي الذي يعني ارتفاع الأسعار مقابل تدني قيمة العملة، أضف إلى هذا انخفاض مستوى العيش و فقدان أوربا لخزينتها من المال و الذهب دافعا إياها إلى الاقتراض من الولايات المتحدة الأمريكية التي استفادت بشكل ملحوظ من ظروف الحرب. سياسيا، أسفرت الحرب العالمية الأولى عن توقيع مجموعة من المعاهدات فرضتها الدول المنتصرة على الدول المنهزمة ما بين سنتي 1919 و 1920، علي سبيل المثال، لنا أن نسلط الضوء على معاهدة فرساي مع ألمانيا، معاهدة سان جرمان مع النمسا، معاهدة نويي مع بلغاريا، معاهدة نتريانو مع هنغاريا و معاهدة سيفر مع العثمانيين، وقد تضمنت هذه المعاهدات غرامات مالية، حظرا عسكريا و اقتطاعات ترابية أدت إلى تغيير الخريطة السياسية لأوربا حيت اختفاء الإمبراطورية العثمانية و الإمبراطورية الهنغارية مقابل ظهور دول جديدة كتشيكوسلوفاكيا و يوكوسلوفاكيا، و بصفة عامة، تقليص أراضي الدول المنهزمة لصالح المنتصرة منها. سنة 1919 عقد المؤتمر السلمي العالمي بباريس، و قد رغبت فرنسا في إضعاف ألمانيا كليا بينما أكدت انجلترا على ضرورة الحفاظ على التوازن الأوربي في حين اقترحت الولايات المتحدة الأمريكية المبادئ الأربعة عشر لويلسون التي تستهدف تسوية العلاقات الدولية، أما ايطاليا فطالبت باسترجاع مناطقها المحتلة من طرف النمسا، وفي عام 1920 تم تأسيس عصبة الأمم المتحدة للحفاظ على السلم العالمي.
    تميزت المرحلة الثانية من الحرب العالمية الأولى بانسحاب روسيا بفعل اندلاع الثورة البلشفية الاشتراكية أنداك، وذلك راجع لمجموعة من التراكمات السياسية، الاقتصادية و الاجتماعية. فسياسيا، سيادة النظام الديكتاتوري و فساد الإدارة و الهيأة التشريعية الشكلية ناهيك عن الانهزام في الحرب. اقتصاديا، تأخر الانطلاقة الصناعية بالمدن و هيمنة كبار الملاكين أو كما اصطلح عليهم وقتها الكولاك على الأراضي الزراعية. فاجتماعيا، بؤس الطبقة العاملة و ظلم صغار الملاكين أو الموجيك. كل هذه الأسباب أدت إلى نشوب الثورة البلشفية الاشتراكية بزعامة لينين في أكتوبر 1917، مسفرة عن جملة من القرارات منها تجريد الطبقة البورجوازية و النبلاء من ممتلكاتهم، تأميم وسائل الإنتاج و تفويض الشأن إلى مجالس السوفيت وهم العمال و الفلاحون الفقراء، في الأخير أدت هذه القرارات إلى نشوب الحرب الأهلية و التدخل الأجنبي بروسيا بين سنتي 1918 و 1921 ثم شن البورجوازيين الحرب على الاشتراكيين بدعم من الدول الرأسمالية التي تخوفت من انتقال الثورة إليها، لكن هذه الحرب باءت بالفشل بفعل التنظيم الجيد و المحكم للجيش الأحمر الذي لقي مساندة كبيرة من الشعب.
    كان للحرب العالمية الأولى نتائج وخيمة على مختلف المجالات خاصة بالنسبة لدول ساحة الحرب، فقد عانت فرنسا من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، و اختلال التوازن التجاري بفعل التضخم الاقتصادي، إضافة إلى قيام بعض المواجهات التي تم قمعها، أيضا تكوين هيأة المصالحة الوطنية تفاديا لاندلاع الثورات. أما ايطاليا فلم تسلم هي الأخرى من هذه العواقب، إذ عانت من العجز التجاري و انخفاض قيمة العملة، ناهيك عن وصول موسولوني إلى الحكم بعد تعيينه من طرف الملك ايمانويل الثالث ليطبق بذلك نظاما ديكتاتوريا. كذلك ألمانيا، إذ تم فرضْ حكومة فيمار عليها لنشر الديمقراطية بها، إلى جانب اندلاع الصراع بين الحركات اليمينية و هم الوسط المسيحي و الاشتراكيون ضد الحركات اليسارية و هم الشيوعيون و السبارطاكيون، بزعامة كل من ليبنخت و لوكسمبورغ، بالإضافة إلى استغلال هتلر لهذه الظروف ليزيد من حجم جيوشه و مؤيديه، متمكنا بعد ذلك من الوصول إلى الحكم بعدما عينه الحاكم هندنبورغ، ليطبق هو الآخر نظاما ديكتاتوريا.
    بالنظر إلى أزمة 1929 التي تعد هي الأخرى من مخلفات الحرب العالمية الأولى، و قد انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا بورصة وول ستريت، يوم الخميس 24 أكتوبر 1929، كنتيجة لمجموعة من الأسباب نذكر منها: ارتفاع الإنتاج الفلاحي و الصناعي مقابل ضعف الإمكانية الاستهلاكية مما دفع بالبنوك الى تقديم القروض لتشجيع الاستهلاك ما زاد الطين بلة، إذ لم يستطع المواطنون إرجاع ديونهم فتم عرض الأسهم للبيع و المضاربات، بالتالي ارتفاع قيمة السهم ثلاث أضعاف دون أي طلب مما ساهم في تكريس و اندلاع الأزمة الاقتصادية لسنة 1929، ولنا أن نشير لأهم المراحل التي مرت منها هذه الأخيرة، ففي ما سبق ذكره انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1929 لتشملها، لتصل بعد ذلك كندا و أمريكا الجنوبية ما بين سنتي 1929 و 1930، أما في عام 1931 فقد انتقلت الأزمة الاقتصادية إلى أوربا بالضبط انجلترا، فرنسا و ألمانيا ثم إلى باقي دول أوربا باستثناء روسيا، لتشمل بعد ذلك دول إفريقيا، آسيا و أستراليا سنة 1932.
و يفسر هذا الانتشار الواسع لأزمة 1929 إلى السلسلة الاقتصادية الرأسمالية لهذه الدول فيما بينها، لكن يبقى التفسير الأجدر هو سحب الولايات المتحدة الأمريكية لرساميلها من أوربا و مستعمراتها.
       أسفرت أزمة 1929 عن جملة من النتائج هددت استقرار المجال الاقتصادي، الاجتماعي و المجال السياسي، فاقتصاديا، تدهور الإنتاجين الفلاحي و الصناعي ناهيك عن تدخل الدولة في الاقتصاد، اجتماعيا، انتشار الفقر، البطالة، المجاعة و ارتفاع نسبة الإعالة إضافة إلى تصاعد الاضطرابات و المواجهات بين الشعب و الحكومة، أما سياسيا، فما كان للمعارضة السياسية إلا أن تعزز مكانتها في الدولة ممهدة الطريق لوصول أنظمة ديكتاتورية فاشية إلى الحكم.

        كل هذا و ذاك، أدى إلى تأزم الأوضاع الداخلية و الخارجية للدول مما مهد لاندلاع حرب سميت بالحرب العالمية الثانية لم يشهد لها العالم مثيلا.

Post a Comment

Please Select Embedded Mode To Show The Comment System.*

Previous Post Next Post