شهد المشرق العربي مطلع القرن التاسع عشر تطورا فكريا ساهمت في بلورته يقظة عربية ارتكزت بالأساس على عوامل سياسية، ثقافية و اجتماعية.
كأي نهضة فكرية ،لا بد و أن تستمد قوتها من دوافع و أسس ترتكز عليها، أبرزها الأسس السياسية و التي كانت بمثابة شعلة نحو التغيير بالمشرق العربي، و لنا أن نسلط الضوء على بعضها ، كانعكاسات حملة نابليون على مصر فكريا، انهيار الإمبراطورية العثمانية و تزايد أطماع الدول الأوربية في ممتلكاتها خاصة بعد فشل الإصلاحات بها سنة 1839، أضف إلى هذا إصلاحات محمد علي التي استهدفت إنشاء دولة حديثة بمصر، سياسة التتريك إضافة إلى سقوط عدة مناطق عربية في يد الاحتلال الأوربي.
أما العوامل الثقافية، فلنا أن نبدأ بعودة البعثات الطلابية من الخارج محملة بالأفكار التنويرية وليدة عصر الأنوار آنذاك، ناهيك عن إنشاء المدارس و جلب المطبعة التي كان لها الأثر الكبير في ظهور الصحافة و ترجمة المؤلفات الغربية إلى العربية رغبة في الاستفادة منها، بالإضافة إلى إحياء و تمجيد اللغة العربية و انتشار قيم التسامح و المحبة بين العرب رغم اختلاف دياناتهم، و لا ننسى تأسيس عدة جمعيات ثقافية ساهمت بشكل أو بآخر في دعم هذا التطور الفكري.
و قد تمثلت العوامل الاجتماعية بالأساس في ظهور طبقة وسطى مثقفة بالبلاد العربية، مع تزايد الشعور القومي ضد سياسة التتريك، و تنامي نشاط البعثات المسيحية إضافة إلى خروج المرأة للحياة العامة مع إمكانية ولوجها المؤسسات التعليمية التي كانت فيما سبق حكرا على الرجال.
هذا بشكل عام، أما عن العوامل الساهمة في بروز اليقظة الفكرية بمصر فقد تجلت في ما يلي:
1- إسهامات محمد علي باشا التي استهدفت إنشاء دولة حديثة بمصر مع عمله على إرسال بعثات طلابية إلى الخارج رغبة في استقطاب و جلب المعرفة و العلم الحديث.
2- إسهامات مجموعة من المفكرين السوريين و اللبنانيين الذين انتقلوا إلى مصر لينشؤوا بها عدة مؤسسات ثقافية أبرزها جريدة الأهرام سنة 1876 من طرف الأخوان سليم و بشارة ثقلا، و دار الهلال المؤسسة سنة 1892.
3- بروز مفكرين مصريين أمثال رفاعة الطهطاوي الذي ناضل بشكل كبير داعيا إلى ضرورة تعليم المرأة و تمكينها من الخروج و تقريبها من الفضيلة، كما أكد على أهمية الدولة المستندة على قوة حاكمة و قوة محكومة تتمتع بالحرية و الحقوق.
كل هذه الجهود و الإسهامات جعلت من مصر عاصمة فكرية بتنويه.
كان لليقظة الفكرية و أسسها بالمشرق العربي مجموعة من المظاهر و التجليات التي أبانت عن مدى نجاح هذه النهضة، و نسرد فيما يلي أهمها:
- عودة اللغة العربية إلى مجدها.
- جلب المطبعة لمصر منذ 1798 و الشام منذ 1834.
- ظهور المجلات و الصحف، كصحيفة الوقائع المصرية سنة 1828 بمصر و صحيفة السلطة سنة 1858 بالشام.
- الاهتمام بإنشاء المدارس العصرية و المعاهد الثقافية.
- الاهتمام بتعليم المرأة.
و مما أثار حقيبة رواد اليقظة الفكرية بالمشرق العربي و لفت أنظارهم خلال أوائل القرن التاسع عشر، مجموعة من القضايا حول علاقة الدين بالعلم و الدولة، ما دفعهم إلى الانقسام إلى تيارين أساسيين:
* التيار السلفي الذي يعتمد على المرجعية الدينية و الأصولية المرتكزة على القران الكريم و السنة النبوية و ما خلفه السلف الصالح محمد صلى الله عليه و سلم ، إضافة إلى محاربة البدع، و قد ضم هذا التيار السلفي جناحين، التيار السلفي التقليدي بزعامة جمال الدين الأفغاني، و التيار السلفي المتجدد بزعامة محمد عبده.
* التيار العلماني الذي يتبنى مرجعية غربية تفصل الدين عن الدولة و تهتم بالفكر الإنساني كسبيل للرقي و الازدهار، و من أهم زعماء هذا التيار نذكر فرح أنطوان، فرانسيس مراش، أديب إسحاق، رفاعة الطهطاوي و قاسم أمين.
دعا كل من هذين التيارين إلى قضايا جوهرية شملت المجال الديني، السياسي و الاجتماعي.
في ما يتعلق بالمجال الديني، دعا التيار السلفي إلى الرجوع إلى الأصول الإسلامية و محاربة البدع و الشعوذة، أضف إلى هذا، الاجتهاد و التوفيق بين العلم و الدين و الدولة، في حين دعا التيار العلماني إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة و حرية المعتقدات الدينية.
في ما يتعلق بالمجال السياسي، حث التيار السلفي عل ضرورة اتخاذ مبدأ الشورى كمنهج لتسيير شؤون الدولة و مناهضة الاستعمار، و كذا نشر مبادئ الحرية و وحدة العالم الإسلامي. أما التيار العلماني فقد أكد على اتخاذ ديمقراطية سياسية ذات طابع نهوضي.
في ما يتعلق بالمجال الاجتماعي، تبنى التيار السلفي قيم العدالة الاجتماعية و الحريات و كذلك التكافل الاجتماعي، في حين شدد التيار العلماني على أهمية تقليص الفوارق الطبقية و ضرورة تعليم المرأة.
ساهمت اليقظة الفكرية بالمشرق بشكل ملحوظ في التطور الذي عرفه العالم العربي آنذاك، حيث أنها عملت على انبثاق نهضة عربية و إحياء اللغة العربية ناهيك عن تطوير السياسة و الرقي بروادها كما هو الشأن بالنسبة لخير الدين الذي منح الوزارة و محمد عبده الذي تولى منصب الإفتاء.
إن هذه اليقظة العربية الفكرية كان لها الدور الكبير في الرقي بالعالم العربي، و فتحت أمامه مجموعة من التحديات أهمها مواجهة الضغوط الاستعمارية.